قدر
كانت "مليكة"
الفتاة ذات العشرين ربيعا, من أجمل فتيات دار الطالبة "بأكادير". ومن
أنبلهن خلقا, لم يشكل فقرها حائلا دون مضيها في الحياة، كانت تشتغل في إحدى شركات
البناء كسكرتيرة و تقصد الجامعة لحضور المحاضرات، وتكابد صعوبة الحياة، لكن حياتها
انقلبت رأسا على عقب يوم لقائها "بمحمد".
تعرضت إحدى
زميلات "مليكة" لنوبة عصبية استدعت حضور الإسعافات الأولية.
توجهتُ مع "مليكة" إلى مستشفى " الحسن الثاني ليستقبلنا "محمد" و على وجهه علامات
الأسف لحال المريضة وبادرنا بالسؤال :
انتوماتي امالكم .. هذي الطفلة امالها ?
أجابته "مليكة" بكل حدة وعصبية :
مانعرفو، اللاتمينا الين سخفت علينا ...
في تلك الأثناء أخذت زميلتنا في الصراخ واستصدار
التمتمات والآهات وهي تتقلب من شدة الألم على امتداد السرير .. وحرقة الوجع، حينها
أمر الممرض بانصراف الجميع من قاعة التمريض
.
ظلت "مليكة" تصرخ من شدة
جزعها على زميلتنا، تركتها مع ذلك
الممرض وتوجهت لمكتب التوجيهات لإتمام
المعاملات ولما انتهيت من تدابير هذه الإجراءات، عدت على وجه السرعة، ووجدتها تمسك
بيدي ذلك الممرض، طلب مني مرافقتها فلفت انتباهي طريقة كلامه الهادئ ولهيجه، حينئذ
عرفت أنه صحراوي، أدخلنا إلى إحدى الغرف مطمئنا إيانا بابتسامة عابرة وكلمات خففت
من قلقنا وفضولنا أجلسها على أحد الكراسي، وأرسل في طلب مشروب بارد لها، ثم
دلف غرفة العمليات، ليخرج و هو فرح . طمأننا بكلماته التي تركت أثرا طيبا في
نفوسنا، لكن عينيه لم تغيبا لوهلة عن عينيها . كان يتكلم و عيناه تتغزل بها ضحكت
في قراره نفسي لأني كنت مدركة أنه سيلقى الصد منها. ارتأيت الذهاب لأستكشف حال صديقتنا،
و حينما عدت، وجدت أن الحديث قد اتخذ منحى مغايرا فاكتفيت بالمراقبة عن بعد .
لم أرى
أبداً "مليكة" مرتاحة لتلك
الدرجة ، تتكلم بكل عفوية، وكأنها تعرفه منذ زمن طويل، لم أرد مقاطعة حديثهما لكني
سمعت أحد الأطباء ينادي , ليخبرني أنه سيبقي صديقتنا " حليمة "
تحت الرعاية الطبية لهذه الليلة، و أكد أن حالتها قد تحسنت و أنها في أيد أمينة .
طلبت إذنه و ناديت على "مليكة"،
أخبرتها أن تبقى معها إلى حين عودتي. قصدت الدكان, واشتريت بعض الفواكه و
المرطبات، و رجعت إلى المستشفى. حين عودتي فوجئت بالممرض يقودني إلى غرفة خاصة،
أحضر لنا سريرين. تناولت
"حليمة"عشائها و لم تكف عن إبداء الشكر والامتنان لكلتينا، أسكتتها
"مليكة" كعادتها بابتسامتها
الساحرة، وتمنينا لها ليلة طيبة و أخبرناها أننا سنبقى الليلة معها حتى لا تحس
بالوحدة، وبالفعل قصدت تلك الغرفة، استلقيت على السرير و لم أستفق إلا على أشعة
الشمس، نظرت إلى جانبي فلم أجد "مليكة" ، فزعت و توجهت إلى غرفة "حليمة"
لأجدهما رفقة ذلك الممرض، تبادلنا تحية الصباح، أخبرتني "مليكة "أنها
لم لم تستطع النوم، تقلبت في الفراش
لساعات لكنها لم تستطع، لتجد مجددا ذلك الممرض الطيب الذي كان يحرس "حليمة"،
ففهمت أنهما لم يناما تلك الليلة إطلاقا.كانت الساعة تشير إلى تمام التاسعة
صباحاً أتممنا المعاملات النهائية للخروج
و عدنا إلى "دار الطالبة". فيما تبقى من اليوم لم يكف
هاتف "مليكة" عن الرنين . و لم تكف هي عن الانزواء عنا بعيدا حين
تجيب . لم أرد أن اسألها ارتأيت أن تسرد هي علي ذلك، بعدها تحدثت إلي
بصراحة، كانت تتكلم و تبتسم أحيانا
طلبت منها أن تسرع في
إخباري فأنا لا أطيق صبرا حتى أعرف الحقيقة كاملة.
أخبرتني أنها
قد وقعت في الحب وأنها استطاعت أخيرا العثورعلى فارس
أحلامها..
توالت الأيام وهي لا تكف عن الكلام في هاتفها، لتطرق بابي في
إحدى ليالي الشتاء القارصة و صراخها يسابق وقع يديها على الباب. استيقظت و كلي
رعب، أخبرتني أن "محمد" سيتقدم لخطبتها, و أمرها أن تخبر أمها و خالها الذي كان معيلها
الوحيد بعد أن تخلى عنها أبوها. فرحت لها و ساعدتها على توضيب حقيبتها، أمرتها
بالخلود للنوم فهي غدا على موعد مهم.
لم تحبذ أم"
محمد "الفكرة بل تبرأت من ابنها البكر و أصر هو على رأيه، قصد أسرة"مليكة
"الصغيرة و أعرب عن رغبته في الزواج، لم يعارض الأهل ووافقوا على طلبه، حينها
لم يعد لأهله أي خيار فقرروا الإذعان
لرغبة ابنهم , رغم كل جهودهم في إبعادهما عن بعض بعد أن علموا أن" مليكة"
من قبيلة أخرى غير قبيلة "محمد".
تم عقد القران و قررا تأجيل حفل العرس إلى أن
يحضر والد "محمد". مرت تلك الأيام بسرعة, واستطاعت "مليكة"
أخيرا تحقيق حلمها, جاء لتوديعها تلك
الليلة على أمل اللقاء و إتمام العرس بحضور أبيه.. نبض قلبها تلك الليلة ولم تستطع
النوم، سارعت لمهاتفة "محمد" لكن هاتفه كان مغلقا، غفت قليلا لتستفيق على رنة هاتفها ومحدث يخبرها
أن" محمد" قد تعرض لحادث و أن حالته سيئة وقد اضطروا لإسعافه
في إحدى الطائرات الطبية "للرباط"
.
استفاقت كل
الطالبات تلك الليلة على صراخها وبكائها.
لم تسعفني عيناي وانزويت في إحدى أركان (الإقامة ) أبكي ,لملمت أفكاري و قصدت
"مليكة " صفعتها بدون قصد. أخبرتها أن بكائها لن يجدي نفعا فزوجها الآن
بأمس الحاجة لها. المؤسف في ذلك الموقف أني عجزت عن مرافقتها لقد حال حائل دون
سفري. رافقتها أمها وأختها و صديقتها المقربة "زينب". لم أكف عن الاتصال
و الاطمئنان . إلى أن وصلت أخيرا إلى
"الرباط " منهكة القوى, وتوجهت إلى مستشفى "ابن
سينا" لتلتقي عائلة" محمد"
التي استقبلتها بوجوه مكفهرة, وصرخات أم" محمد". كلما استطاعت تجميعه كلمة واحدة (جات اللعاكا
علينا يللي يفركنا معاها ان شاء الله)
توسلت" مليكة" الأطباء كي ترى "محمدا" لكنهم
منعوها فحالته خطرة. ظلت تبكي وترجو أن يفهمها أحد الوضع. لكن الكل صدوها وتجنبوا
محاكاتها. انتظرت ساعات طوال , لتسمع أحد الأطباء ينادي على اسمها اندفع أهل
"محمد" يستفسرون عن السبب ليخبرهم الطبيب أن "محمد"
لا يطلب سوى "مليكة
"اندفعت نحوه تؤكد هويتها. أدخلها بسرعة لتلتقي أعينهما أخيرا.رمت نفسها عليه
تبكي و تلعن حظها.أما هو فكان عاجزا عن الكلام . أمسك يدها برجفة المحتضر وعينين
بريئتين و ابتسامة ذابلة... قائلا :
-
أنا عارف عني لاهي نموت يغير نختيرك تعرفي عني
نبغيك .
نطقها بكل صعوبة,فأجابته بآهة عميقة :
-
لا تليت تكول ذ النوع من لكلام ماهو فالك ادور تبرا ...
أخبرته بأنه سيتعافى وأنهما سيجتمعان في بيتهما, وأنها اشترت الشر شف الأحمر الذي أحبه. حينها
صك على أسنانه. برزت عيناه, ونطق
الشهادتين.. أطلقت"مليكة"
صرخة جزع و دخل الأطباء ليجدوه قد فارق الحياة...





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق