صباح زارت الشمس فيه وجه " الساقية الحمراء ", هذا الوادي الذي يختزل الأزمنة والعصور ويكن في جوفه ألم الرحيل, و كلما حل الليل تمثلت عذراء في أبهى حلة معرفا نفسه " بالدشيرة " تلك القرية التي يتزوجها القدر كل ليلة حتى إذا ما بزغ الفجر ولدت لنا قصصا تقاطعت أقدار أبطالها . لم تكن " السالكة " تدري أن ربيعها العشرين سيكون مختلفا عن كل فصول حياتها,حين تبعث لك الحياة ريحا تحاول اغتصابك وتنتزع لباسك وتقاومها مبتسما فتأكد أنها لا تداعبك بل هي عثرة صدفة قاتلة.
السالكة تدب على الأرض في حياء وقع أقدامها يحدث ايقاعا منتظما وحدها كانت تسمعه مرتدية لحافها الصحراوي الذي كانت تمتزج ألوانه بشمس الدحيميس ليتشكل فيما بينها لوحة سريالية تسر الناظرين , فجأة تعكر صفو هذا الجمال بريح شرقية ترفع لحاف الحشمة في حين غرة ,سارعت السالكة في مقاومتها وهي محمرة الوجنتين أمام أعين "محمد لمين " الذي قبع واقفا حيث أبت عيناه أن ترمش للحظة، جعلتها نظراته تتخبط خجلا , ولته ظهرها وسارعت في الهروب أصر على اللحاق بها وكأن رائحة أنفاسها تقوده لجسدها مباشرة استوقفها صوته :
- انت قطعا مانك من اهل الدشيرة . ؟
أجابته بصوت مرتجف :
- انا اللا وحدة من اهل الدشيرة وخلاكة فيها وبخوتي اربعة
- راهي لك الدشيرة انزادت من ساعة عتي انت فيها... ماني موجهلك ماهو مولانا انت شينكالك
- بعد تردد ملحوظ وبصوت خافت
- " السالكة"
لازال صدى همساتها الدافئة يتردد في أذنيه حتى عانقت المجهول ... لتمحو آثار خطواتها ريح شرقية حملت معها لهفة "محمد لمين" ورعشة قلبه الذي انزاح عن مكانه وراح يغدو ناشدا اسمها
توالت الأيام, الأسابيع والشهور و"محمد لمين " تائه بين " الدشيرة " و"العيون" لتشاء الأقدار أن تستقر "السالكة " وعائلتها بالعيون بعد عشرين سنة في "الدشيرة "، وستة أشهر بلقائها بحبيبها " محمد لمين ", كم كانت فرحته عارمة حين علم بقرار أهلها , فقد بات قريبا من حبيبته ونال رضا والدته الذي كان قد فقده بسبب الحال الذي آل إليه. وبعد مرور السنة والنصف صدم بالخبر القاتل . خطبت "السالكة" من أخ زوج أختها (حما ختها ) الذي نزل كالصاعقة على الحبيبين في حين كان بشرى لعائلتها التي زفت الخبر وأكمله الجيران.
بالرغم من كل هذا أبى الحبيبان أن يرضخا للأمر الواقع و فضلا أن يسكبا دموعهما على رمال شاطئ "فم الواد"، حيث يمسكان أيديهما ويشدان أناملهما بعضا ببعض تاركين واقعا أليما ينتظرهما. ظل الحال على هذا النحو مدة خمسة أشهر و كل ما ضاقت بهما المشاكل إلا وهربا لأقرب منأى. فباتت الكثبان الرملية أو (لغراد) باللهجة الحسانية مأوى الحبيبين حيث تستلقي"السالكة "على أعلى قمة تلية وتترك العنان "لمحمد لمين" لمواساتها ومسح دموعها وضمها ومجاراة حركات فمها, التي أشعلت لوعة الحنين وجرت بعواطفهما منحى مغايرا لحركة الريح. كانا يظنان أنهما يعيشان كابوسا و عندما يستفيقان منه يسارع كل منهما لمهاتفة الثاني وطمأنة قلبه .
- مندرا يكانا لاهي نتمو بذي الحالة الدهر كامل يا "محمد لمين "?
لفظت" السالكة " هذه الكلمات وكلها أسى. بينما تنهد المسكين وتأفف وكأن الكلمات اختنقت في حلقه .أجابها بنبرة حزينة :
- أنت يا السالكة ,أنا مانكد نصيب عنك ولاني لاهي نفتصل معاك يسوا اللي كالو أهلك .
كانا ساخطين على حال الحب لدى المجتمع الصحراوي حيث غلبة الرأي للقبيلة والأهل، وحيث ترضخ الفتاة لرأي أبيها وإخوتها بحكم القرابة أو القبيلة ففلان ابن فلان وفلان من قبيلة كذا...زمن المأساة والمعاناة وطغيان الأنا المتكلمة. أنا صارمة أنانية غرضها حط حمل ثقيل, فتاة في العشرين سنة ، والنجاة من القيل و القال. أما الحب والعشق فكلمات ومعان لا تجد في قاموسها مكانا تستقر فيه،, فتنزح دائما الى الهوامش... فما " السالكة" و"محمد لمين" الا شخصيتان واقعيتان عاشا أحلى فترات عمرهما بحب عذري يتخبط بين أمواج عاتية، لا يملكان سوى زورق أمل بلا شراع ولعل شراعهما كان الحب وسرعان ماهوى تحت رحمة القدر .
جاء اليوم المشؤوم وأعلن الزواج ترحما على روح حب عاش هاربا من سلطة الأعراف ليحمل في نعش اللامبالاة ... في هذه اللحظة بالذات ينحت بركان من الألم في قلب "محمد لمين" طريقا يعبره موكب جنائزي لحبه الشهيد تملأه بدل الأسى زغاريد النسوة. ليدفن في أرض الخلود و يرش قبره بدموع عروس عقد قرانها توا بالأسى...وقدم مهرها على طبق من ألم... زفت " السالكة " لعريسها و نصبت الخيام وجاء (الدفوع) على مرأى من عيني "محمد لمين " الذي كان محاطا بخمس من أصدقائه إذ كانوا يخشون عليه من الهاوية أو من ارتكاب جريمة في حق العريس أو بالأحرى في حق نفسه ، تعالت الزغاريد و أطلق البارود وامتزج صهيل الأحصنة بصوت الجمل (المعكول). كان "محمد لمين " يتمنى أن يفتك رباطه لأنه وبالصدفة المريرة اشترى العريس نفس الجمل الذي كان فيما سبق غاية "محمد لمين" المنشودة، كان يأمل أن يندفع الجمل هائجا نحو الجموع , إلا أن الجمل وكأنه كان هو الأخر راضخا للواقع صابرا على حاله فهو في الأخير سيساق للمجزرة و أجله كأجل حب "محمد لمين " .
عم الظلام وحانت ليلة العرس المنشودة . انشغل الأهل بالحفل وتركت "السالكة" كباقي العرائس وحيدة وصديقتها (لوزيرة ) لتفاجئ بطرقات على باب غرفتها. لقد كان "محمد لمين " و قد لبس (ملحفة) وتخفى عن أنظار الناس ليستطيع وبمساعدة إحدى صديقات العروس الوصول الى بابها ... وكانت المفاجأة. لم يتمالك الاثنان نفسيهما وأجهشا بالبكاء .
حبست أنفاسها لحظة ثم تنهدت وقالت له :
- أنا كنت نعرف عنك لاهي تجيني ومنين جيت مشي بي .انا ماني شاكة عني نكد نعود يكون لك نت وحدك.
مد يده وكأنه يريد إسكاتها , ثم سحبها بعد تردد ملحوظ وقال بصوت هادئ ناعم يخفي وراءه مشاعر الحزن والأسى :
- أنا من يوم شوفتي لك شفتك طاهرة وعفيفة ونختيرك تمي فذيك الصفة اللي عرفتك بيها . واليوم جاي انأكد لك عنك يسوى تخيمتي مانك لاهي تمركي بعد أخلاكي.
انهارت السالكة فور سماعها كلماته تلك .عم الصمت المكان ولم تسمع( لوزيرة) وصديقتها إلا أنين أصواتهما و صوته يصبرها ويتمنى لها التوفيق والسعادة.
ودعها بعين دامعة وحضن غريب، و اختفى بين الحشود الفرحة. لتمحو حبهما ليلة سوداء, عريس فرح وعروس ذابلة . وينقشع الصباح تاركا بقعة حمراء و رداء منسيا...





القصة جدا مشوقة ..
ردحذفوسرد رائع .. والتفاصيل تخلي المرء يعيش الدور مععم تماما ..
أحب قصص الكبرياء ..
هو يكابر الأعراف وازداد حبه لها لعفتها ... وهي تحبه بجنون ..